انتهاك حق الصحة الإنجابية.. نساء إفريقيا في مواجهة خفض المساعدات الدولية

انتهاك حق الصحة الإنجابية.. نساء إفريقيا في مواجهة خفض المساعدات الدولية
حق الإنجاب - أرشيف

تواجه آلاف النساء في السنغال مستقبلًا يزداد هشاشةً مع خفض المساعدات البريطانية والأمريكية المخصصة لبرامج منع الحمل، حيث وثّقت صحيفة "الغارديان" في تقرير لها من مدينة جوال الساحلية أن تراجع الدعم المالي يهدد بإلغاء سنوات من التقدم في حماية صحة النساء السنغاليات، اللاتي يعتمدن على خدمات منظمة "إم إس آي للخيارات الإنجابية" لتجنّب الحمل المتكرر والمهدد للحياة.

تُظهر مشاهد الساحل السنغالي مجتمعًا تعصف به عواصف البحر والفقر معًا، فبعد ليلةٍ ماطرةٍ أخرى، بقيت النساء في بيوتهن يُصلحن ما أفسدته المياه، في حين بات الصيد محدودًا بسبب الزوارق المتهالكة وشباك الجر الصناعية، وسط هذه الظروف، تنتظر النساء دورهن في عيادة متهالكة تفتقر حتى إلى القفازات الطبية.

تقول القابلة آمي مباي التي تعمل منذ عقدٍ في المركز الصحي: "النساء هنا محاربات، لكننا نخسر المعركة"، مشيرة إلى أن انقطاع المساعدات قد يعيد معدلات الحمل القسري ووفيات الأمهات إلى مستويات كارثية.

الحق في الصحة

تكشف الغارديان أن برنامج "الصحة الجنسية المتكاملة للمرأة" (Wish 2)، الممول من المملكة المتحدة ويغطي دولًا عدة منها الكونغو الديمقراطية ومالي والسنغال وتشاد وموريتانيا، يواجه تخفيضات قاسية، بعد أن كانت ميزانيته السنوية تبلغ 30 مليون جنيه إسترليني في المرحلة الأولى.

وتقلصت إلى 6.7 ملايين فقط، ما خفّض عدد المستفيدات من مليوني امرأة إلى مئتي ألف، ويُنتظر أن تُفاقم التخفيضات الجديدة التي أعلنتها حكومة حزب العمال البريطاني لصالح الإنفاق الدفاعي، أزمة التمويل في هذا البرنامج الحيوي.

في السنغال، يعتمد المشروع على عاملات مجتمعيات يُعرفن محليًا باسم "باجينو جوكس"، أي "عرابات الحي"، يتنقلن بين المنازل لشرح فوائد تنظيم الأسرة، تقول إحداهن، ندوا ثيام، إن البحر لم يعد يوفر الغذاء كما كان، وإن الظروف الاقتصادية القاسية دفعت النساء لتحمّل مسؤولية قراراتهن الإنجابية بأنفسهن، مضيفة: "كنا نُنجب لأن الرجال يريدون ذلك، أما الآن فنُنظم الأسرة لنستطيع العمل والعيش بكرامة".

انعكاسات قارة بأكملها

تؤكد تغطية "أسوشيتد برس" أن خفض المساعدات لا يقتصر على السنغال وحدها، بل يمتد إلى دول إفريقية أخرى تعتمد على برامج تمويلية مماثلة لتأمين وسائل منع الحمل وخدمات الصحة الإنجابية، ففي ليبيريا، وثّقت الوكالة حالات نفاد الإمدادات من العيادات، واضطرار النساء إلى السفر مسافات طويلة بحثًا عن وسيلة منع حمل واحدة.

في بعض المناطق، باتت الممرضات يعتذرن يوميًا عن عجزهن عن توفير اللولب أو الحبوب الأساسية، في حين تحذّر منظمات دولية من أن الانقطاع قد يتسبب في زيادة حالات الحمل غير المرغوب فيه والوفيات المرتبطة بالأمومة.

وتنقل الوكالة عن تقارير ميدانية أن شحنات من وسائل منع الحمل ما زالت عالقة في المستودعات بسبب قرارات وقف التمويل أو تأخر الإفراج عنه من الوكالات الأمريكية المانحة.

بعض هذه الإمدادات يواجه خطر الإتلاف أو انتهاء الصلاحية، ما أثار احتجاجات في أوروبا ضد ما وصفته منظمات حقوقية بـ"العبث بصحة النساء الإفريقيات".

أما صحيفة "واشنطن بوست" فقد تناولت في تقارير سابقة الأثر الواسع لسياسات خفض التمويل الأمريكي لبرامج الصحة العالمية، موضحةً أن القيود التي فرضتها إدارات متعاقبة على تمويل تنظيم الأسرة أخلّت بسلاسل الإمداد الطبي في عدد من الدول الإفريقية.

خدمات الصحة الإنجابية

تُشير الصحيفة إلى أن هذه السياسات لم تؤدِّ فقط إلى تقليص خدمات الصحة الإنجابية، بل شملت أيضًا أدوية مكافحة الإيدز واللقاحات الأساسية، ما جعل ملايين النساء والأطفال على حافة الخطر.

وتُبرز الصحيفة الأمريكية البعد الحقوقي للأزمة، إذ ترى أن السياسات التي تُخضع الجسد الأنثوي لتقلبات التمويل الدولي تمثل مساسًا مباشرًا بالحق في الصحة والكرامة الإنسانية، وتشير إلى أن قرار وقف الدعم لم يكن نتيجة نقص الموارد فقط، بل امتداد لصراعات سياسية داخل الدول المانحة بين أولويات الدفاع والسياسات المحافظة تجاه الصحة الجنسية والإنجابية.

وتؤكد "أسوشيتد برس" أن القارة الإفريقية التي تضم أكثر من مليار نسمة ونسبًا مرتفعة من وفيات الأمهات، هي الأكثر تضررًا من تقليص التمويل الدولي، وتوضح أن برامج التمويل السابقة أسهمت في خفض حالات الحمل غير المرغوب فيها بنحو 40% في بعض الدول، قبل أن تتراجع الأرقام مجددًا مع بدء موجة التخفيضات.

وتوثق الوكالة شهادات لنساء فقدن إمكانية الوصول إلى اللولب الرحمي أو حبوب منع الحمل منذ أكثر من عام، واضطررن للجوء إلى وسائل بدائية غير آمنة.

وفي المقابل، تنقل "الغارديان" شهادات محلية مؤثرة مثل شهادة كومبا ديينغ التي أنقذها تركيب اللولب من حمل متكرر بعد سبعة أطفال متتاليين، تقول إنها تمكنت بفضله من العمل وسداد قرض مصرفي صغير لتوسيع مشروعها في بيع الطعام.

مسؤولية الدول المانحة

يعيد خفض المساعدات فتح نقاش جوهري حول مسؤولية الدول المانحة عن ضمان استدامة برامج الصحة الإنجابية في الجنوب العالمي، فحين تُقطَع المساعدات، لا تتراجع فقط المؤشرات الصحية، بل تُنتزع من النساء حقوق أساسية في تقرير مصير أجسادهن.

ويشير التقرير الذي اعتمدت عليه "واشنطن بوست" إلى أن الانقطاع المفاجئ للتمويل الأمريكي لبرامج تنظيم الأسرة أدى في دول مثل كينيا وتنزانيا والكونغو إلى ارتفاع ملاحظ في حالات الحمل غير المرغوب فيه، وتزايد الاعتماد على الإجهاض غير الآمن.

وترى "الغارديان" أن هذا الانهيار الصامت يمثل "ضريبة غير معلنة على الفقر"، تدفعها النساء الإفريقيات من أجسادهن، في ظل غياب بدائل حكومية محلية قادرة على تغطية الفجوة. أما أسوشيتد برس فتصف الوضع بأنه "تراجع تاريخي في مكتسبات النساء"، مؤكدة أن ملايين الأسر تواجه اليوم خطر الفقر الغذائي والانقطاع المدرسي لأطفالها نتيجة الحمل المتكرر.

يُعيد هذا المشهد، كما تقول "واشنطن بوست"، التذكير بفجوة أخلاقية متزايدة بين السياسات المعلنة حول تمكين المرأة وبين ممارسات التمويل التي تُقيد قدرتها على ذلك، ففي الوقت الذي تُضاعف فيه الحكومات الغربية إنفاقها العسكري، تُغلق أبواب التمويل أمام برامج الصحة الأساسية في إفريقيا، ويشير محللون نقلت عنهم الصحيفة إلى أن كل دولار يُقتطع من هذه البرامج يُترجم إلى خسائر في الأرواح البشرية.

وتختتم "الغارديان" تقريرها من جوال بعبارة مؤثرة على لسان القابلة آمي مباي: "لسنا بحاجة إلى الشفقة، بل إلى شراكة تحترم حقنا في الحياة"، تلك الجملة تختصر جوهر القضية: أن خفض المساعدات لمنع الحمل ليس مجرد قرار مالي، بل انتكاسة لحق إنساني أصيل، يتصل بصحة المرأة وكرامتها وفرصها في الحياة العادلة.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية